الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال: «اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة»، عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن ضبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار، فسبق سعيد عمارًا وكان أشب الرجلين فقتله، وأما مقيس بن ضبابه فأدركه الناس في السوق فقتلوه، وأما عكرمة فركب البحر فاصابتهم عاصفة فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة: اخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئًا. فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر إلا الاخلاص ما ينجني في البر غيره، اللهم إن لك عهدًا إن أنت عافيتني مما أنا فيه إن آتى محمدًا صلى الله عليه وسلم حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوًّا كريمًا. قال: فجاء فأسلم، وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح فإنه اختبأ عند عثمان رضي الله عنه، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة جاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله بايع عبد الله. قال: فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثًا كل ذلك يأبى فبايعه بعد الثلاث. ثم أقبل على أصحابه فقال: «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله». قالوا: وما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟ قال: «إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة أعين». وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم والخطيب في تاريخه والديلمي في مسند الفردوس عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث هن رواجع على أهلها، المكر، والنكث، والبغي، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم} {ولا يحيق المكر السيِّئ إلا بأهله} [فاطر: 43] {ومن نكث فإنما ينكث على نفسه} [الفتح: 10]». وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن نفيل الكناني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث «قد فرغ الله من القضاء فيهن لا يبغين أحدكم، فإن الله تعالى يقول: {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم} ولا يمكرن أحد فإن الله تعالى يقول: {ولا يحيق المكر السيِّئ إلا بأهله} [فاطر: 43] ولا ينكث أحد فإن الله يقول: {ومن نكث فإنما ينكث على نفسه} [الفتح: 10]». وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإِيمان عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبغ ولا تكن باغيًا، فإن الله يقول: {إنما بغيكم على أنفسكم}». وأخرج ابن أبي حاتم عن الزهري قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبغ ولا تكن باغيًا فإن الله يقول: {إنما بغيكم على أنفسكم}». وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤخر الله عقوبة البغي فإن الله قال: {إنما بغيكم على أنفسكم}». وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أجدر من أن يعجل الله لصاحبه العقوبة من البغي وقطيعة الرحم». وأخرج أبو داود والبيهقي في الشعب عن عياض بن جابر. أن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد. وأخرج البيهقي في الشعب من طريق بلال بن أبي بردة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبغي على الناس إلا ولد بغي أو فيه عرق منه». وأخرج ابن المنذر والبيهقي عن رجاء بن حيوة. أنه سمع قاصًا في مسجد مِنى يقول: ثلاث خلال هن على من عمل بهن البغي، والمكر، والنكث، قال الله: {إنما بغيكم على أنفسكم} {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله} [فاطر: 43] {ومن نكث فإنما ينكث على نفسه} [الفتح: 10] ثم قال: ثلاث خلال لا يعذبكم الله ما عملتم بهن: الشكر، والدعاء، والاستغفار، ثم قرأ {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم} [فاطر: 43] {قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم} [الفتح: 10] و{ما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} [الأنفال: 33]. وأخرج أبو الشيخ عن مكحول قال: ثلاث من كن فيه كن عليه: المكر والبغي والنكث. قال الله: {إنما بغيكم على أنفسكم}. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما». وأخرج ابن مردويه من حديث ابن عمر رضي الله عنه. مثله. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنه قال: «ما من عبادة أفضل من أن يسأل، وما يدفع القضاء إلا الدعاء، وإن أسرع الخير ثوابًا البر، واسرع الشر عقوبة البغي، وكفى بالمرء عيبًا أن يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه، وأن يأمر الناس بما لا يستطيع التحوّل عنه، وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه». اهـ. .فوائد لغوية وإعرابية: {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} قوله تعالى: {إِذَا هُمْ يَبْغُونَ}: جوابُ لمَّا، وهي {إذا} الفجائية. وقوله: {بغير الحق} حالٌ، أي: ملتبسين بغير الحق. قال الزمخشري: فإنْ قلتَ: ما معنى قوله: {بغير الحق} والبغيُ لا يكونُ بحق؟ قلت: بلى وهو استيلاء المسلمين على أرضِ الكفار وهَدْمُ دورِهم وإحراقُ زروعِهم وقَطْعُ أشجارهم، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة، وكان قد فَسَّر البغيَ بالفسادِ والإِمعان فيه، مِنْ بغى الجرحُ: إذا ترامى للفساد. ولذلك قال الزجاج: إنه الترقّي في الفساد، وقال الأصمعيُّ أيضًا: بغى الجرحُ: ترقى إلى الفساد، وبَغَت المرأة: فَجَرَت، قال الشيخ: ولا يَصِحُّ أن يُقال في المسلمين إنهم باغُون على الكفرة، إلا إنْ ذُكر أنَّ صلَ البغيِ هو الطلبُ مطلقًا، ولا يتضمَّن الفسادَ، فحينئذ ينقسم إلى طلبٍ بحق وطلب بغير حق، قلت: وقد تقدَّم أنَّ هذه الآيةَ تَرُدُّ على الفارسي أنَّ لمَّا ظرف بمعنى حين؛ لأن ما بعد {إذا} الفجائية لا يَعْمل فيما قبلها، وإذ قد فَرَضَ كونَ لمَّا ظرفًا لزمَ أن يكونَ لها عاملٌ. قوله: {مَّتَاعَ الحياة} قرأ حفص {متاعَ} نصبًا، ونصبُه على خمسة أوجه: أحدُها: أنه منصوب على الظرف الزماني نحو: مَقْدَم الحاج، أي: زَمَن متاع الحياة. والثاني: أنه منصوبٌ على المصدر الواقع موقع الحال، أي: مُتَمتعين. والعاملُ في هذا الظرف وهذه الحالِ الاستقرار الذي في الخبر، وهو عليكم. ولا يجوزُ أن يكونا منصوبين بالمصدر لأنه يلزم منه الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه بالخبر، وقد تقدَّم أنه لا يُخْبَرُ عن الموصول إلا بعد تمامِ صلته. والثالث: نصبُه على المصدرِ المؤكِّد بفعلٍ مقدر، أي: يتمتعون متاع الحياة. الرابع: أنه منصوبٌ على المفعول به بفعلٍ مقدر يدلُّ عليه المصدر، أي: يبغون متاعَ الحياة. ولا جائزٌ أن ينتصِبَ بالمصدر لِما تقدم. الخامس: أن ينتصب على المفعولِ مِنْ أجله، أي: لأجلِ متاع والعامل فيه: إمَّا الاستقرارُ المقدَّرُ في عليكم، وإمَّا فعلٌ مقدر. ويجوز أن يكونَ الناصبُ له حالَ جعله ظرفًا أو حالًا او مفعولًا من أجله نفسَ البغي لا على جَعْل {على أنفسكم} خبرًا بل على جَعْله متعلقًا بنفس البغي، والخبرُ محذوفٌ لطول الكلام، والتقدير: إنما بَغْيُكم على أنفسكم متاعَ الحياة مذومٌ أو مكروهٌ أو منهيٌّ عنه. وقرأ باقي السبعة {متاعُ} بالرفع. وفيه أوجه: أحدُها: وهو الأظهر أنه خبرُ {بَغْيكم} و{على أنفسِكم} متعلقٌ بالبغي. ويجوز أن يكونَ {عليكم} خبرًا، و{متاع} خبرًا ثانيًا، ويجوزُ أن يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أي: هو متاع. ومعنى {على أنفسكم}، أي: على بعضِكم وجنسِكم كقوله: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] {وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات: 11]، أو يكونُ المعنى: إنَّ وبالَ البغي راجعٌ عليكم لا يتعدَّاكم كقولِه: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46]. وقرأ ابنُ أبي إسحاق {متاعًا الحياة} بنصب {متاعًا} و{الحياةَ}. فـ {متاعًا} على ما تقدَّم. وأما {الحياة} فيجوز أن تكونَ مفعولًا بها، والناصب لها المصدر، ولا يجوز والحالةُ هذه أن يكونَ {متاعًا} مصدرًا مؤكدًا لأنَّ المؤكِّد لا يعمل. ويجوزُ أَنْ تنتصبَ {الحياة} على البدل من {متاعًا} لأنها مشتملةٌ عليه. وقرئ أيضًا {متاعِ الحياة} بجرِّ {متاع}، وخُرِّجت على النعت لأنفسكم، ولابد مِنْ حَذْفِ مضافٍ حينئذ تقديرُه: على أنفسكم ذواتِ متاع الحياة، كذا خرَّجه بعضهم. ويجوز أن يكونَ ممَّا حُذِف منه حرفُ الجر وبقي عملُه، أي: إنما بَغْيُكم على أنفسِكم لأجِل متاع، ويدلُّ على ذلك قراءةُ النصب في وجه مَنْ يجعله مفعولًا من أجله، وحَذْفُ حرفِ الجر وإبقاءُ عملِه قليلٌ، وهذه القراءةُ لا تتباعَدُ عنه. وقال أبو البقاء: ويجوزُ أن يكونَ المصدرُ بمعنى اسم الفاعل، أي: متمتعات، يعني أنه يَجْعل المصدرَ نعتًا لأنفسكم من غيرِ حَذْفِ مضافٍ بل على المبالغة أو على جَعْلِ المصدر بمعنى اسم الفاعل. ثم قال: ويَضْعُفُ أن يكونَ بدلًا إذ أمكن أن يُجْعَلَ صفةً، قلت: وإذا جُعِل بدلًا على ضعفه فمِنْ أيِّ قبيل البدلِ يُجعل؟ والظاهر أنه مِنْ بدل الاشتمال، ولابد من ضميرٍ محذوفٍ حنيئذ، أي: متاع الحياة الدنيا لها. وقرئ {فيُنَبِّئَكُم} بياءِ الغَيْبة، والفاعلُ ضميرُ الباري تعالى. اهـ. .من لطائف وفوائد المفسرين: قال عليه الرحمة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُم} معناه: تُمَتِّعكم أيامًا قلائلَ، ثم تَلْقَوْن غِبَّ ذلك وتبدأون تقاسون عذابًا طويلًا. اهـ. .تفسير الآية رقم (24): .مناسبة الآية لما قبلها: ولما كان السياق لإثبات البعث وتخويفهم به وكانوا ينكرونه ويعتقدون بقاء الدنيا وأنها إنما هي أرحام تدفع وأرض تبلغ دائمًا بلا انقضاء فهي دار يرضى بها فيطمئن إليها، وللتنفير من البغي والتعزز بغير الحق، وكانت الأمثال أجلى لمحال الأشكال، قال تعالى ممثلًا لمتاعها قاصرًا أمرها على الفناء ردًا عليهم في اعتقاد دوامها من غير بعث: {إنما} فهو قصر قلب {مثل الحياة الدنيا} التي تتنافسون فيها في سرعة انقضائها وانقراض نعيمها بعد عظيم إقباله {كماء أنزلناه} أي بما لنا من العظمة وحقق أمره وبينه بقوله: {من السماء} فشبهه بأمر النبات وأنه قليل يبلغ منتهاه فتصبح الأرض منه بلاقع بعد ذلك الاخضرار والينوع، وفي ذلك إشارة إلى البعث وإلى أنه تعالى قادر على ضربة قبل نهايته أو بعدها ببعض الآفات كما يوجد في بعض السنين، فيقفرون منه ويفتقرون إليه، وفي ذلك تحذيرعظيم {فاختلط} أي بسبب إنزالنا له {به} أي بسبب تليينه ولطافته {نبات الأرض} عمومًا في بطنها {مما يأكل الناس} أي كافة {والأنعام} من الحبوب والثمار والبقول فظهر على وجهها {حتى} ولم يزل كذلك ينمو ويزيد في الحسن والجرم؛ ولما كان الخصب هو الأصل، عبر عنه بأداة التحقيق فقال: {إذا} ولما كانت بهجة النبات تابعة للخصب، فكان الماء كأنه يعطيها إياها فتأخذه، قال: {أخذت الأرض} أي التي لها أهلية النبات {زخرفها وازينت} بأنواع ذلك النبات زينة منها الجلي ومنها الخفي- بما يفهمه الإدغام {وظن أهلها} أي ظنًا مؤكدًا جدًا بما أفاده العدول عن قدرتهم إلى {أنهم قادرون} أي ثابته قدرتهم {عليها} باجتناء الثمرة من ذلك النبات وغاب عنهم لجهلهم علم العاقبة، فلما كان ذلك {أتاها أمرنا} أي الذي لا يرد من البرد أو الحر المفرطين {ليلًا أو نهارًا فجعلناها} أي زرعها وزينتها بعظمتها بسبب ذلك الأمر وتعقيبه بالإهلاك {حصيدًا} وعبر بما فهمه فعيل من المبالغة والثبات بقوله: {كأن} أي كأنها {لم تغن} أي لم تكن غانية أي ساكنة حسنة غنية ذات وفر مطلوبة مرغوبًا فيها أي زرعها وزينتها {بالأمس} فكان حال الدنيا في سرعة انقضائها وانقراض نعيمها بعد عظيم إقباله كحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطامًا بعد ما التف وزين الأرض بخضرته وألوانه وبهجته. ولما كان هذا المثل في غاية المطابقة للساعة، هز السامع له فازداد عجبه من حسن تفصيله بعد تأصيله فقيل جوابًا له: {كذلك} أي مثل هذا التفصيل الباهر {نفصل} أي تفصيلًا عظيمًا {الآيات لقوم} أي ناس أقوياء فيهم قوة المحاولة لما يريدون {يتفكرون} أي يجددون الفكر على وجه الاستمرار والمبالغة؛ والمثل: قول سائر يشبه فيه الحال الثاني بالأول؛ والاختلاط: تداخل الأشياء بعضها في بعض؛ والزخرف: حسن الألوان. اهـ. .من أقوال المفسرين: .قال الفخر: في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما قال: {يا أيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الحياة الدنيا} [يونس: 23] أتبعه بهذا المثل العجيب الذي ضربه لمن يبغي في الأرض ويغتر بالدنيا، ويشتد تمسكه بها، ويقوي إعراضه عن أمر الآخرة والتأهب لها، فقال: {إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الارض} وهذا الكلام يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون المعنى فاختلط به نبات الأرض بسبب هذا الماء النازل من السماء، وذلك لأنه إذا نزل المطر ينبت بسببه أنواع كثيرة من النبات، وتكون تلك الأنواع مختلطة، وهذا فيما لم يكن نابتًا قبل نزول المطر.
|